plusresetminus
تاريخ النشرSunday 14 January 2024 - 07:11
رقم : 36072

غزة.. ستة اتجاهات تحكم احتمالات توسع الحرب

نور الدين إسكندر
ستة اتجاهاتٍ كبرى تحكم المشهد الآن، وهي اتجاهاتٌ مرحلية غير دائمة ينقسم في بعضها الحلفاء، ويشترك في بعضها الخصوم، أو قل المتنابذون في السياق الإقليمي.
غزة.. ستة اتجاهات تحكم احتمالات توسع الحرب
أدت الحرب الإسرائيلية الهستيرية على غزة وانعكاساتها على الساحات الأخرى، إلى حالة طوارئ عالمية متعددة الاتجاهات والأسباب.

فما يحرك الأحداث بالنسبة إلى الولايات المتحدة مختلف عما يحركها بالنسبة إلى بقية العالم الغربي، ومختلف في وجهٍ آخر عما يحرك قادة دول المنطقة، والذين يفكر كلٌ منهم وفق حساباتٍ خاصة ومختلفة عن غيره، فضلاً عن أن ما يعنيه كل موقفٍ وحدثٍ يُنظر إليه في دول وقوى محور المقاومة مختلفٌ جذرياً عن حسابات من سبق ذكرهم جميعاً.

ستة اتجاهاتٍ كبرى تحكم المشهد الآن، وهي اتجاهاتٌ مرحلية غير دائمة ينقسم في بعضها الحلفاء، ويشترك في بعضها الخصوم، أو قل المتنابذون في السياق الإقليمي.

الاتجاه الأول
تمثله الولايات المتحدة التي ترى الأحداث من منظارٍ قريبٍ من التطابق مع الكيان الإسرائيلي، لكن مع اختلافات جادةٍ ومؤثرة في التوقيت والأساليب ودرجة العنف وتقدير الآثار والانعكاسات، والرؤية الاستراتيجية لما يمكن أن تخلص إليه هذه الحرب من حقائق جيوسياسية جديدة، ومفاعيلها في الصورة الكبرى لعالم الغد.

إلى جانب ذلك، ينطلق الاتجاه الأميركي الحالي من وقائع داخلية أيضاً، ترتبط بالحالة الاستثنائية التي تعيشها البلاد المنقسمة كما لم يسبق لها أن فعلت، بين رؤية دونالد ترامب وأنصاره لأميركا، وبين تقاليد السياسة الأميركية والمؤسسات ورؤية الديمقراطيين لها.

جاءت عملية "طوفان الأقصى" وحرب الإبادة الإسرائيلية للشعب الفلسطيني من خارج جدول الأعمال الأميركي في هذه المرحلة، وفرضت على الإدارة الأميركية استحقاقاتٍ جديدة تحمل في طياتها تهديداتٍ كبرى كانت تعتقد أنها مؤجلةٌ مرحلياً، وكانت تقدّم عليها استحقاقاتٍ أكثر دهماً تتعلق بمواجهة روسيا في أوكرانيا، وبالتحضير لحصار الصين وربما مواجهتها عسكرياً خلال وقتٍ غير بعيد، لمنعها من استكمال صعودها العالمي.

هذه المعطيات تحكم الآن الموقف الأميركي من الحرب. وهي تفسر عدم حماسة الولايات المتحدة لاتساع رقعة المواجهة وانفلات الأحداث من ضوابطها مع محور المقاومة. لكن، على الرغم من كل ذلك، لا تصلح كل هذه الاعتبارات لتصور أن واشنطن تختلف مع "إسرائيل" على الأهداف الكبرى للحرب، بل إن القضاء على المقاومة الفلسطينية، وتالياً اللبنانية، ثم كل قوى محور المقاومة، تمثل أهدافاً استراتيجية يحلم بها الساسة الأميركيون على اختلاف اتجاهاتهم الداخلية.

لكن الخلافات الأميركية-الإسرائيلية الآن تتركز حول تقدير كلٍ منهم لما هو ممكن ومقبول، ولما يمكن المخاطرة به في سبيل تحقيق الأهداف.

تريد الولايات المتحدة وقف الحرب بنتيجة تتفكك معها قدرات حركة حماس وفصائل المقاومة الأخرى في غزة، وتتحوّل الديناميات الفلسطينية، تحديداً في غزة، باتجاه متنافر مع منطق المقاومة ومع نفوذ حركاتها.

بالإضافة إلى استعادة الزخم في مسار التطبيع الغربي-الإسرائيلي، كونه يشكل العازل الفاعل بين المزاج الشعبي العربي المرتبط هوياتياً ووجودياً بالقضية الفلسطينية، والمتأثر في مساحاتٍ كبيرة منه بمنطق قوى المقاومة وإنجازاتها. وكونه يمنح واشنطن الوضعية المثالية لضمان استمرار مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، والتفرغ للصراعات الأخرى.

وتحاول واشنطن إذّاك ابتكار صيغةٍ تفضي إلى ذلك، من دون أن تضطر إلى دخول الحلبة بنفسها، والمخاطرة بمواجهة شاملة في المنطقة، قد تخلص إلى خروجها من الشرق الأوسط برمّته خلال سنواتٍ قليلة دامية.

الاتجاه الثاني
يمثله الكيان الإسرائيلي، من دون الكثير من الاهتمام بتلويناته الداخلية المحمومة منذ ما قبل اندلاع الحرب، إذ إنه يسعى في حركته العامة إلى الأهداف نفسها، ولديه جينات الاحتلال والاستيطان والإبادة نفسها، ولا تعدو تفاعلاته الداخلية كونها صراعات حول هوية من سيكون القاتل التالي على متن ماكينة القتل الشامل المسماة "دولة".

لكن، بما أن القاتل الحاكم الآن يتمثل بالحكومة الأكثر تطرفاً بين متطرفين، فإن خيارات هذه الحكومة هي المقامرة مع الولايات المتحدة وابتزازها بالقيمة الاستراتيجية لـ"إسرائيل" في سياق الاستراتيجية الأميركية في المنطقة والعالم.

يدرك بنيامين نتنياهو ومجموعة السفاحين الذين ضمهم إلى حكومته، أن "إسرائيل" ركيزة أساس في منظومة الولايات المتحدة لتثبيت السيطرة على العالم ونهب ثرواته. وهم يعرفون قدرهم لدى واشنطن، فيتدللون ويستخدمون ذلك في محاولة جر صاحب المصلحة الكبرى من وجود "إسرائيل" إلى الحرب بنفسه، للدفاع عن ماكينته للعنف المتقدم في وسط العالم.

تظهر مواقف القادة الإسرائيليين تقديراتهم للموقف، إذ يعتقدون بأن واشنطن لا يمكن أن تسمح بهزيمتهم في حربٍ كبرى في مواجهة محور المقاومة. إذاً، لمَ الحرب المحدودة مع حماس؟ خصوصاً إذا كانت حرباً خاسرة وفق مجريات الميدان، نظراً إلى فشل أهدافها وفداحة خسائرها.

فلتكن حرباً كبرى، ما دامت واشنطن لا تتحمل خسارتنا الحاسمة التي ستسرّع عداد نهاية "الدولة"، يقولون. غاية ذلك أولاً هي جر واشنطن إلى الحرب، والتخلص من كل الأعداء دفعةً واحدة، أو على الأقل ابتزاز واشنطن لتستخدم كل قواها الناعمة، والتلويح بقواها الخشنة، من أجل حلٍ سياسيٍ يخلق عوازل بين قوى المقاومة والحتلال الإسرائيلي من جهة، ويبعد تأثير إيران المنشط لعملية تحرير فلسطين.

وسوف تؤدي الديناميات المترتبة على ذلك الحل-وفق رؤيتهم-إلى ذبول القضية الفلسطينية تدريجياً، مع تنشيط وتعظيم متواصلين إعلامياً وسياسياً من قبل الكيان والقوى المطبعة معه لمنطق التركيز على الخسائر التي تكبدها الفلسطينيون واللبنانيون وقوى المحور من جراء الحرب، لإخافة الشعوب من هذا الخيار، واستعادة فكرة أن المقاومة غير مجدية، وتزيين الأفكار التي تتحدث عن السلام وحل الدولتين وعناق القاتل والضحية.

وأمام الضغط الأميركي المعاكس للجنوح نحو الحرب الموسعة، يحاول قادة الاحتلال الضغط المضاد على واشنطن لتحقيق معادلة سياسية تبعد حزب الله عن الحدود، وتؤمن للكيان إعادة مستوطنيه إلى الشمال من ناحية، وتتيح له التفرغ لمواصلة الحرب على الفلسطينيين، بوسائل أكثر ضبطاً. فإذا لم تكن الحرب الموسعة مقبولة، فليكن الاستفراد بالفلسطينيين، وليأتِ لنا الأميركيون بهدية تخدير بقية قوى محور المقاومة. هكذا يأملون.

الاتجاه الثالث
تمثله الدول الغربية الأخرى، وهي واقعةٌ في مآزق متوازية ومتزامنة، ورازحةٌ تحت مجموعةٍ من العقد التاريخية، والمخاوف المستقبلية، والمصالح الحالية. دول أوروبا الغربية التي أصابت الحرب في أوكرانيا من مستقبلها السياسي والاقتصادي مقتلاً، خائفة من أميركا، وخائفة على "إسرائيل"، ومتوجسةٌ من استعادة إرث المسألة اليهودية على شكل تدفقات معاصرة من المهاجرين اليهود الذين صدّرتهم قبل عقود إلى فلسطين، وظنت أنها ارتاحت من تاريخهم ومن تاريخها معهم.

المشكلة اليهودية في العالم هي مشكلة أوروبية في الأساس، ولم تكن قبل القرن الماضي مشكلةً لأحدٍ آخر في هذا العالم. القرون الخمسة الماضية شهدت تفاعلاتٍ شديدة الثقل بين اليهود وأنظمة الحكم في أوروبا، وصراعاتٍ مجتمعية واقتصادية تحولت إلى صراعاتٍ سياسية، وصلت ذروتها مع ممارسات النازية قبل الحرب العالمية الثانية وخلالها.

تنظر دول أوروبا الغربية -مع عدم نسيان التباينات بينها والمرتبطة بمستوى سيطرة واشنطن على النخب في كل دولة-إلى الحرب على أنها مصدر تهديدٍ أمني طويل الأمد لها، يؤدي إلى رفع حرارة التشققات الداخلية في مجتمعاتها، التي تعيش فيها كتل سكانية كبيرة عربية وإسلامية وأخرى يهودية.

في الوقت نفسه، تشعر هذه الدول في بنيانها الفكري الذي يتسع عن طبقتها السياسية ليشمل مفكريها ونخبها غير السياسية بأنها ممسوكة ومعطلة عن الشراكة في صناعة عالم الغد، وأنها تفقد مع الوقت قدرتها على التأثير في اتجاهات العالم. صحيح أن السياسة العالمية تناقش في أوروبا ربما أكثر من أي مكانٍ آخر، ويكتب عنها، لكنها لم تعد مصدر الفعل، بل تسمع به من شرقها ومن غربها، وهي تقف في المنتصف، تستعيد قراءة أدبياتها على العالم، الذي لا يسمع إلا للفاعلين.

زيارات القادة الأوروبيين إلى المنطقة خلال الحرب تقول ذلك. هم لم يعودوا أكثر من سعاة بريدٍ بين واشنطن وخصومها. وحين تريد واشنطن الكلام مع الخصوم بنفسها، تفعل ذلك من دون المرور بأحد. حتى حين تجد الأخيرة مصلحةً "بتشليح" حلفائها الأوروبيين صفقاتٍ كبرى، فهي تفعل من دون خجل أو تبرير (فرنسا عاشت هذه القصة مراراً خلال أشهر قليلة).

يطلب الأوروبيون اعترافاً بأنهم لا يزالون في اللعبة. فيزايدون على واشنطن في بداية الحرب، وتغرق صحفهم بإدانة حماس و"الإرهاب الإسلامي"، فلا يجدون التقدير اللازم. تضج مجتمعاتهم التي أصبحت كثيرة الألوان باتجاهات متعارضة، ضد "إسرائيل" ومعها، بما يهدد بانفجارٍ لا يعوز سبباً إضافياً ليقترب، بعد الأزمات الاقتصادية المتفاقمة، فيتخبطون بمواقف تدعو "إسرائيل" إلى وقف القتل، ثم يعودون فيعتذرون عما بدا منهم.

كل دولةٍ منهم تقوم بالمطالبة بحضورٍ أوسع لها بأسلوبها الخاص. فرنسا تؤيد "إسرائيل"، ثم تطلب منها وقف القتل، ثم تستسيغ فكرة أردنية التفافية على الدعم الفعلي لوقف الحرب، من خلال إنزالات دعائية لمواد إغاثية للفلسطينيين، فتقلّدها. ثم ترسل المبعوثين لتحييد لبنان عن الحرب، كونه آخر ما يذكرها بما كانت عليه في المنطقة، وإن كان الحضور الفرنسي فيه لم يعد يتجاوز الملامح الثقافية العتيقة.

المملكة المتحدة وجدت لها دوراً مختلفاً في التحالف الغربي منذ زمن، وهو دور الخبير مساعد القائد، والذي يبتكر الأفكار التي تحرض القائد وتغريه وتزيد من حماسته، وتزيّن له المغامرة حتى يغوص في الحدث، فيما يرسم المساعد مصالحه في الخلفية، من دون أن يدفع ثمنها. هكذا فعل توني بلير في حرب العراق، وهكذا فعلت لندن في حرب أوكرانيا وفي سياق الحرب الغربية ضد روسيا، وهكذا تعني الآن تهديدات وزير الدفاع البريطاني لليمنيين بعدم التسامح مع إغلاقهم البحر الأحمر بوجه السفن الإسرائيلية والمنتقلة من الكيان وإليه.
بموازاة ذلك، أدت الحرب إلى اتساع الهوة بين الدول الأوروبية والجنوب العالمي، إلى حدٍ وصفته مجلة "لوبس" الفرنسية في عددها الأخير بـ"القطيعة".

بالمحصلة، الأوروبيون -بعد ميركل خصوصاً-خارج التأثير الفعلي في الأحداث، إلا كمساعدين للولايات المتحدة، تسكنهم الآن مخاوف أخرى متعلقة بعودة ترامب إلى البيت الأبيض، وما يحمله ذلك من تسلط أميركي إضافي عليهم.

الاتجاه الرابع
تمثله الدول الإقليمية التي ترتبط بعلاقاتٍ سياسية أو اقتصادية مع "إسرائيل"، ومعهم السلطة الفلسطينية. هؤلاء يتعاطون مع الوضع الراهن بما يرونه من مصالحهم، خارج منطق الانتماء إلى القضية الفلسطينية والأخوة مع الشعب الفلسطيني. هكذا تقول المواقف والأحداث.

فمقاربة الحرب الحالية كحدثٍ سياسي وعسكري عادي ويومي لا تتوافق مع طبيعتها الإجرامية. فما يحدث الآن في المنطقة، وخصوصاً في غزة والضفة الغربية، حرب إبادة استثنائية لم يعرف العالم أوضح منها. والاستجابة الطبيعية من قبل دول المنطقة العربية والإسلامية يفترض أن تبنى على وحدة التاريخ والهوية والمستقبل مع أبناء القضية الفلسطينية.

تمتلك هذه الدول أوراقاً شديدة التأثير في العالم كله، وبإمكانها إيقاف الحرب أكثر من أي قوى أخرى في العالم. وهي جميعها في مرمى التهديد الإسرائيلي على المستوى الاستراتيجي، واستمرار تفوق "إسرائيل" يزيد من هذا التهديد مع مرور الوقت، لكن الحسابات الضيقة تعطل رؤية ذلك، وتجعل من الصراع على السلطة سبباً للخوف من مواقف تحمي المصالح الاستراتيجية لشعوب هذه الدول.

لكن، مع دخول الحرب شهرها الرابع، تعزز هذه الدول مواقفها الداعية إلى وقف إطلاق النار، والبحث عن حلٍ سياسي يقوم على حل الدولتين، وتسعى في الوقت نفسه إلى تشكيل حكمٍ فلسطيني يشبهها في غزة والضفة، يكون قابلاً بخسارة معظم الأرض الفلسطينية التاريخية، ومفاوضاً دائماً على المساعدات والتحويلات المالية وتحسين الشروط السياسية، من دون أن ينالها. تشترك هذه الدول في تأييد هذا السيناريو مع الولايات المتحدة، والمواقف الأوروبية التالية لقيام "إسرائيل" بإبادة جماعية قوامها عشرات الآلاف من الشهداء، وأكثر منهم بضعفين من الجرحى، ودمار شامل للمدن والقرى بكل من وما فيها.

تحاول هذه الدول، خصوصاً تركيا والأردن، تحميل نتنياهو وحكومته فقط وزر الجرائم الإسرائيلية، مع تجاهل مشاركة كل القيادات الإسرائيلية الأخرى في الدفع نحو المزيد من العنف، وتأييد أغلبية الإسرائيليين لأهداف الحرب والقتل العمومي للفلسطينيين، وأبعد من ذلك، تجاهلٌ تام للدعم الأميركي الهائل وغير المحدود للكيان في ممارسة القتل منذ اليوم الأول، وقبله منذ يوم النكبة.

يقول وزير الخارجية الأردني إنه من غير المقبول أن يسمح المجتمع الدولي لنتنياهو ووزراء حكومته بجر المنطقة إلى حربٍ إقليمية تورط الغرب من أجل إطالة عمر الحكومة السياسي. يبدو الموقف محقاً، لكنه غير مكتمل. لأنه يحصر الصراع برمّته بالتنافس الإسرائيلي الداخلي على السلطة. بينما الميل إلى ممارسة القتل أصيلٌ في كل ساسة الكيان.

تريد هذه الدول جمع ثلاث مصالح معاً:
أولاً: منع توسع الحرب، لأنها ستؤدي في نهاية المطاف إلى تغييراتٍ دراماتيكية وجوهرية في المنطقة، بما يؤثر حتماً على أنظمة الحكم فيها.

ثانياً: الاستمرار في علاقاتها السياسية والاقتصادية مع الكيان (وهي مستمرة خلال الحرب)، وعلاقاتها الاستراتيجية مع واشنطن، ومتابعة المسار التطبيعي كونه يمثل الصيغة المطمئنة لواشنطن، ويسمح لهذه الدول بمواصلة تعزيز شراكاتها الأخرى ومشروعاتها الاقتصادية.

ثالثاً: تشكيل حكمٍ سياسيٍ تطبيعي في فلسطين ينهي الكفاح المسلح، ويجعلها وصيةً على الشعب الفلسطيني أمام الولايات المتحدة و"إسرائيل".

الاتجاه الخامس
تمثله القوى الصاعدة كروسيا والصين ومعهما دول الجنوب العالمي. هؤلاء ليسوا كتلةً واحدة. لكن يجمعهم خيالٌ مشترك عن عالم الغد. وهم يرون الصراع في المنطقة من باب تأثيره في مستقبل النظام الدولي على المدى الاستراتيجي، ومفاعيله على قوة أميركا وحضورها على المدى الآني.
إلى جانب ذلك، تدرك هذه القوى المزاج العام للشعوب العربية والإسلامية، وترى إمكانية شراكةٍ في الدفاع المشترك عن مصالح الحضارات الأخرى في عالم الغد، والمتعارضة حد التناقض مع استمرار هيمنة الحضارة الغربية على النظام الدولي، ومنعها القوى الصاعدة من الوصول إلى الموارد الاستراتيجية التي تمكنها من التطور الاقتصادي.
أيضاً يشترك بعض هذه القوى في قيمٍ مع العالمين العربي والإسلامي، ومواقفها من الأحداث لا ترتبط بالرغبة في رؤية واشنطن مهزومة، بل أيضاً بإدراك فرص للتعاون الاستراتيجي مع دول المنطقة وشعوبها في المستقبل.
تدرك هذه الدول أيضاً، خصوصاً بعد التحولات العالمية، والحرب في أوكرانيا، واشتداد التحفز الأميركي والدعم الأوروبي للمواجهة مع الصين، أن الدور الوظيفي لـ"إسرائيل" في الشرق الأوسط معاكس لمصالحها بصورةٍ صارخة. وهذا ما أدى إلى تراجع دراماتيكي في العلاقات بين "إسرائيل" وكل من روسيا والصين في السنوات الأخيرة، وأكثر تحديداً في الأشهر الأخيرة.
لا تفعل هذه الدول الكثير لوقف الحرب في غزة، لأن تفاعلات هذه الحرب تعود عليها بمكاسب بالجملة. فهي تشتت قدرات الغرب، وتربك الولايات المتحدة، وتضعف ركيزتها الشرق أوسطية (إسرائيل)، وتستفز شعوب عالم الجنوب ضد أميركا، وتؤثر سلباً في إمدادات الطاقة إلى الغرب، وتظهر الولايات المتحدة كقائدة لأقلية عالمية في المحافل الدولية، ولا سيما في الأمم المتحدة…
لكن هذه القوى تشترك مع العالمين العربي والإسلامي في الرغبة بهزيمة "إسرائيل" في هذه الحرب، لأنها في نهاية المطاف هزيمة لأميركا وانتكاسة لاستراتيجيتها في المنطقة، وكسر إضافي في هيبتها العالمية.

الاتجاه السادس
تمثله المقاومة الفلسطينية وقوى محور المقاومة. تدرك هذه القوى موازين القوى الدولية والإقليمية، وأثبتت في المحطات السابقة أنها تعمل بمنطقٍ مختلف في تشكيل القوة ومراكمتها وخلق الاستعدادات عن المنطق الغربي والإسرائيلي، وقد صنعت من خلال رؤيتها الخاصة تلك انتصاراتٍ ملموسةً وتغييراً كبيراً في الشرق الأوسط، وصولاً إلى انتزاع الاعتراف العالمي بمكانتها وفاعليتها في الصراع.
وجدت هذه القوى نفسها مع عملية "طوفان الأقصى" وما بعدها أمام استحقاقٍ مشحون بالتهديدات والفرص. وهي منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر تدير حرباً مدروسة بحسابات دقيقة جداً، تأخذ بالحسبان التوازنات العالمية والوضعيات الإقليمية والقدرات الذاتية، وهي لا تغفل الميزات التفاضلية التي يتمتع بها عدوها، كما تعرف على وجه الدقة ميزاتها التفاضلية وكيفية إدارتها.
تتحرك قوى المقاومة في منظومةٍ متناغمة ومتنوعة، لكنها غير تابعة بالمعنى القيادي لجهةٍ واحدة تقرر خطواتها، إنما تشتمل على مجموعة من القوى التي تنشط في دول ومجتمعات لكلٍ منها ضروراته وضغوطاته وبيئته التي يتفاعل فيها.
لقد فتحت عملية "طوفان الأقصى" أمام هذا النسيج المتنوع فرصة اختبار موقف العدو بكل ما يحمله من قدراتٍ واحتمالات. وتحركت في جهد شاملٍ ضد العدو، بدأ من غزة، وامتد إلى لبنان، ومر بسوريا والعراق وصولاً إلى اليمن. لكن هذا التحرك لم يُبنَ على رد فعلٍ أو هبّة عاطفية كما تشير الأحداث المستمرة، بل بقي بارداً في الإدارة وتوزيع الجهد الحربي والضغط الشامل (السياسي والاقتصادي والإعلامي)، وحامياً بصورةٍ متصاعدة في الفعل العسكري والأمني.
تهتم هذه القوى الآن بمواجهة المخاطر التي تترصد المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة، وبمنع مشروعات التهجير الجديد للفلسطينيين من أرضهم، بالإضافة إلى منع العدو من تحقيق أمنية قديمة بجر حلفائه الغربيين وفي مقدمتهم الولايات المتحدة إلى حربه، في هذه اللحظة العالمية الاستثنائية بالتحديد.
تقدير هذه القوى يبدو مفهوماً من ناحية دراستها لحركة القوة عبر العالم، وتوقع الصراعات المقبلة وساحاتها، وحساباتها لا تقف عند حدود المنطقة التي لطالما كانت ساحة الصراعات المؤثرة في النظام الدولي. الآن، اختلفت حسابات القوى الكبرى، وطرأت على المشهد العالمي تحولات كبرى في الجغرافيا السياسية والاقتصادية، زخّمتها التحولات التكنولوجية التي خلقت حقائق جديدة وموضوعات جديدة للصراع، مثل التنافس المحموم على المواد الأولية الضرورية لصناعات المستقبل، كأشباه الموصلات والغاليوم والجرمانيوم، والإنترنت الجديد، ومجال الكوانتوم كومبيوتر، واستدامة وارداتها من الطاقة…
انطلقت حرب حقيقية بين الغرب والصين في هذه المضامير، تسعى من خلالها الصين إلى تحقيق السيادة التكنولوجية وأمن واردات الطاقة من خلال تسريع جهودها في بناء أسطولها للمياه الداكنة، في حين يشن الغرب حرب عقوباتٍ وإجراءاتٍ سيادية استباقية لمنع توريد ما تحتاجه بكين من المواد الحيوية لتغذية اقتصادها، خصوصاً في قطاعاته التكنولوجية.
في هذا السياق، طوّرت الصين علاقاتها بدول الخليج العربية المنتجة للطاقة بصورةٍ غير مسبوقة، دقّت جرس إنذارٍ في واشنطن، وعززت في الوقت نفسه علاقاتها بإيران وروسيا، وكان تتويج هذا الجهد الصيني من خلال خرقٍ سياسيٍ بالغ الأهمية حين نجحت في إعادة الحرارة إلى العلاقات الإيرانية-السعودية، الأمر الذي رفع من ضجيج جرس الإنذار نفسه، وأعطى إشارات استراتيجية خلقت بدورها ضروراتٍ أميركية جديدة في المنطقة.
لكن، ما موقع هذه الحقائق في الحرب الحالية؟ في الحقيقة، يمكن الالتفات إلى ثلاثة انعكاساتٍ واضحة لهذه الحقائق على مواقف القوى الفاعلة في هذه الحرب، وهي:
أولاً: موقف الولايات المتحدة.
ثانياً: موقف المملكة العربية السعودية.
ثالثاً: موقف إيران وقوى المقاومة.
في البند الأول، سبق ذكر محددات الموقف الأميركي من الحرب، وهو مسكون بهذه الحقائق السالفة الذكر، إذ لا تريد الولايات المتحدة أن تترك للصين فرصة وراثتها كراعٍ للتوازنات الإقليمية، الذي قد يتطور بسرعة وسلاسة ليرث النفوذ الأميركي في المنطقة، وإمكانية فشل واشنطن في تحقيق تسوية توقف الحرب قد تؤدي هذا الغرض.
وفي البند الثاني، اتخذت السعودية اتجاهاً جديداً يقوم على التنويع الآمن قدر الإمكان لشراكاتها مع القوى العالمية، وهي في الوقت نفسه لا تريد المغامرة في العودة إلى مربع التوتر مع إيران وقوى المقاومة، والذي سيعني تدميراً حتمياً للاتجاه الجديد السالف الذكر. وهذا ما يفسر موقف المملكة تجاه اليمن وفلسطين معاً.
أما في البند الثالث، فتبدو واضحة علامات فهم قوى محور المقاومة لهذه الحقائق، وضرورة البناء عليها في خدمة الأهداف العليا لمشروعها في المنطقة، وعنوانه الكبير تحرير فلسطين على المدى المنظور. لقد أدت الأحداث الحالية إلى عرض محاكاةٍ حقيقية أمام أعين قادة هذا المحور لعملية تحرير فلسطين كلها، بواقعية وجدية.
لا تريد هذه القوى تقديم هدية مجانية ذهبية لـ"إسرائيل"، من خلال الاندفاع المتفلت على وقع اللحظة العاطفية باتجاه محاربة كل الأعداء والخصوم معاً على مساحة المنطقة.
بل إن القراءة الاستراتيجية الباردة والواثقة والعارفة بالمصلحة العليا لعنوان تحرير فلسطين، تفرض الآن استغلال حقائق الموقف الأميركي المستجدة، وضرورات دول الخليج المواتية للتهدئة، وفي الوقت نفسه، هي لا تسمح لـ"إسرائيل" بالاستفراد بالفلسطينيين وكسر إرادتهم، بل إضعاف الكيان الإسرائيلي واستنزافه وعدم التفريط بتضحيات حركات المقاومة في فلسطين ولبنان واليمن وسوريا والعراق.
مؤدى هذه الرؤية يدفع باتجاه محاصرة اتساع الحرب، لكن مع ضمان انتصارٍ فلسطينيٍ يحفظ المقاومة والشعب الفلسطيني ويمنع "إسرائيل" من تحقيق أهدافها. وهنا، مكمن الخلاف مع أهداف الولايات المتحدة من نحو منحى التهدئة ونتائجها. للمحور وواشنطن ميل واحد نحو وقف الحرب، لكن لكل منهما نتيجة مرغوبة متناقضة عن نتيجة الآخر.
الأمر الذي ستحسمه الضرورات الملحة والحقائق الميدانية والصبر في تحمل التضحيات، والخبث السياسي الذي يرتفع ثمنه في المعادلة الآن.

الخلاصة
هكذا تتشكل رؤية شاملة لمسار الأحداث، حيث تجد واشنطن مساحة مشتركة مع "إسرائيل" على هدف تحقيق انتصار عسكري تبنى عليه نتيجة سياسية مناسبة، وتجد واشنطن أيضاً مساحة مشتركة مع الدول العربية ومحور المقاومة في محاولة تقليص وقف الحرب بتسوية كبرى، تفيدها في تجنب الآثار المرتبطة بالصراع مع الصين.
فيما يجد محور المقاومة نفسه أمام ضرورة تحقيق انتصار فلسطيني لا يكسر المسار التراكمي الموجه نحو الهدف الأسمى الكبير.
هذه التقاطعات والتناقضات تتفاعل الآن، في بيئة شديدة الحساسية والهشاشة، ويمكن لحدثٍ واحد أن يفجرها. لكن الاتجاه المنطقي بحسب مصالح معظم اللاعبين، يقول بأن الحرب الشاملة مستبعدة في هذه المرحلة، وأن مصالح الجميع سوف تغلب الأهداف غير الواقعية لـ"إسرائيل". يبقى أن تجد واشنطن المخرج المناسب لتشكيل صورة الحل، والذي ربما يكمن في تغيير إسرائيلي داخلي متسارع، ويزداد إلحاحه على واشنطن.
انتهی/*
0
شارک بتعلیقک
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني